الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» لأنه ساعة يزني لو تخيل أو تأكد أنه سيُلْقى في النار جزاء ما فعل، فلن يقدم على الزنا أبدًا. وكذلك شارب الخمر لا يمكن أن يضع الكأس في فمه. إذا تخيل النار وهو يُعذَّب فيها. ولكن الغفلة عن الإيمان تحدث لحظة ارتكاب المعصية؛ لأن الإيمان يقتضي أن تستحضر العقوبة ساعة تُقدِم على المعصية، وأن تعلم يقينًا أن كل ما تفعله ستُحاسب عليه في الآخرة، وسيكون هناك جزاء.فإذا ضحكت من مطلوبات الإيمان فلابد أن تبكي في الآخرة. فإن فرحت- مثلًا- بترك الصلاة أو الزكاة، واعتقدت أنك قد غنمت في الدنيا، فلابد أن تندم ويصيبك الغمُّ في الآخرة. وإذا تنعمت بمال حرام فلابد أن تُعذب به في الآخرة. والحق سبحانه يقول: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} [المطففين: 29-31].هكذا يعطينا الله عدة صور من السخرية التي يتعرض لها المؤمنون في الدنيا، وأولى هذه الصور هي ضحك المنافقين والكفار من المؤمنين، كأن يقول أحدهم لإنسان مؤمن يقوم إلى الصلاة: خذنا على جناحك في الآخرة. ثم بعد ذلك يأتي الغمز واللمز، ثم إذا ذهب المنافق إلى أهله أخذ يسخر من الطائعين ويقول: لقد فعلت كذا وكذا لإنسان متدين. وسخرت منه ولمن لم يستطع أن يرد. ويشعر بالسرور وهو يحكي القصة فرحًا بما عمل. وينسى أنه قد ارتكب ثلاثة جرائم: جريمة العمل، وجريمة الفرح بالعمل، وجريمة الإخبار بالعمل. فلو أنه سخر من المؤمن، ثم ندم بعد ذلك، ربما كانت عقوبته هيِّنة. ولكن ما دام قد فرح بذلك تكون له عقوبة أكبر، فإذا انقلب إلى أهله يروي لهم ما حدث، وهو فخور مسرور تكون له عقوبة ثالثة.وليتهم توقفوا عند ذلك بل اتهموا المؤمنين بالضلال؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 32-33].أي: أنهم زادوا على كل هذا باتهام المؤمنين بالضلال. هذا ما صنعوه في الدنيا. وهي فانية وعمرها قليل. ثم يأتي سبحانه وتعالى بالمقابل في الآخرة؛ فيقول: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34-36].فكما ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا؛ سيضحك المؤمنون من الكفار في الآخرة، وسيجلس المؤمنون على الأرائك في الجنة وهم ينظرون إلى الكفار وهو يُعذَّبون في النار، أي: أن الله جزاهم بمثل عملهم مع الفارق بين قدراتهم المحدودة وقدراته سبحانه التي لا حدود لها.ولم يقل الحق سبحانه وتعالى: سيضحكون ككلام خبري، يجوز أن يحدث أو لا يحدث، بل جاء به مُؤكدًا. وقوله هنا في المنافقين {فَلْيَضْحَكُواْ}. يعني: أن الضحك لابد أن يحدث؛ لأن هذا كلام من الله سبحانه وتعالى.فقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يعطينا العلة أو السبب في أن ضحكهم سيكون قليلًا، وبكاءهم سيكون كثيرًا؛ لأن هذا جزاء ما فعلوه في الدنيا. لقد فرحوا بالفرار من الجهاد. وسُرّوت بالراحة في المدينة، فلابد أن يُلاَقوا في الآخرة جزاءهم عن هذا العمل، كما سَيُثاب المؤمنون على ذهابهم للجهاد في الحرِّ.إذن: فالحق سبحانه لم يظلمهم، بل أعطاهم جزاء ما عملوه. كما قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وكلمة {يَكْسِبُونَ} هنا لها ملحظ لابد أن نُبيِّنه، فقد كان من الممكن أن يُقال جزاء ما كانوا يعملون أو جزاء ما كانوا يفعلون، فلماذا جاء الحق بـ {يَكْسِبُونَ}، وما الفرق بينها وبين ما يفعلون وما يعملون؟نعلم أن لكل جارحة من جوارح الإنسان مجالَ عمل؛ فالأذن تسمع، والعين ترى، واليد تمسك، والقدم تمشي، والأنف يشُمُّ، والأنامل تملس.إذن: فكل عضو له مهمة. فإن كانت المهمة هي النطق باللسان نسميها القول. وإن كانت مهمة من مهام باقي الجوارح عدد اللسان نسميها الفعل. فاللسان وحده أخذ القول، وكل الجوارح أخذت الفعل. والقول والفعل معًا نسميهما عملًا.فإذا قال الحق سبحانه وتعالى: يفعلون يكون ذلك مقابل يقولون؛ لأن الإنسان قد يقول بلسانه ولا يفعل بجوارحه. وتوضح ذلك الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].ولكن إذا اتحد القول والفعل يكون هناك عمل. وكل شيء لا يتسق منطقيًا مع قيم المنهج يكون فيه افتعال، فالكسب عمل، والاكتساب افتعال الكسب؛ لأن الكسب عمل طبيعي، والاكتساب هو افتعال الكسب. وسبحانه يقول: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت...} [البقرة: 286].لأن الاكتساب بالحرام فيه افتعال يتعب النفس، ولا يجعلها منسجمة مع جوارحها، فالرجل مع زوجته في البيت مستقر الجوارح لا يخشى شيئًا. لكنه مع زوجة غيره يهيج جوارحه؛ فيقفل النوافذ ويُطفئ الأنوار. وإنْ دقَّ جرس الباب يصاب بالذعر والهلع؛ لأن ملكات النفس ليست منسجمة مع العمل.أما إذا اعتادت النفس الإثم مثل من اعتاد الإجرام، فلا يهيجها الحرام. وفي هذه الحالة تنقلب عملية الاكتساب إلى كسب، وتعتاد النفس على المعصية وعلى الإثم، ويصبح جزاؤها عند الله أليمًا وعذابها عظيمًا.ويقول الحق سبحانه في هذه الآية: {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وكان مقتضى الكلام أن يقال: جزاء بما كانوا يكسبون لأن هذه عملية فيها إثم وفيها معصية، فلابد أن يكون فيها افتعال، ولكن الحق سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن هؤلاء المنافقين قد اعتادوا المعصية، وعاشوا في الكفر، فأصبحت العملية سهلة بالنسبة لهم، ولا تحتاج منهم أي افتعال.واقرأ قول الحق: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ الله...} [المائدة: 38].والسرقة ليست أمرًا طبيعيًا، لذلك يقوم بها السارق وخفية ويُبيِّت لها ويفتعل؛ ولذلك كان من المنطقي أن يقال اكتسبوا لكن شاء الحق أن نعرف أن السرقة قد أصبحت في دم هؤلاء، ومن كثرة ما ارتكبوها فهي بالنسبة لهم عملية آلية سهلة. وقد وضع التشريع لها نطاقًا وهو ربع دينار مثلًا. والذي يسرق دون هذا النطاق لا يُطبق عليه حَدُّ قطع اليد. لماذا؟ لأن ربع الدينار في ذلك الوقت كان يكفي لقوت أسرة متوسطة العدد لمدة يوم واحد. فإذا سرق أي إنسان ما يكفي قوت أسرة لمدة يوم واحد، يقال: ربما فعلها لأن أسرته لا تجد ما تأكله، فإذا أخذ أكثر من الضرورة، يكون قد أخذ أكثر مما يحتاج إليه، وتكون السرقة قد حدثت ويثقام عليه الحد.ونحن نعلم أن العقل البشري وظيفته الاختيار بين البدائل، ومفروض أن يُقَدِّر الإنسان العقوبة ويستحضرها ساعة وقوع المعصية، وأن يستحضر الثواب ساعة القيام بالطاعات ترغيبًا للإنسان في الطاعة. ونحن نأتي للطالب المجتهد ونطلب منه أن يُخفِّف من المذاكرة، لكنه لا يترك الكتاب لأنه استحضر النجاح؛ وما سيحدث بعد النجاح من دخوله الكلية التي يريدها، أو بعد تخرجه من الجامعة إن كان قد وصل إلى مرحلة التخرج، وكذلك استحضر نظرة أهله وأساتذته وزملائه إليه، وهو يستحضر كل ذلك؛ مما يدفعه لقضاء ساعات طويلة في المذاكرة دون أن يشعر بالتعب.إذن: فالذي يُحبِّبك في الطاعة هو استحضار لذة الثواب القادم. والذي يُكرِّهك في المعصية هو استحضار ألم العقاب الذي لابد أن يحدث.ولكن هؤلاء المنافقين والكفار قد اعتادوا المعصية والكفر؛ حتى أصبح سلوكهم المخالف للإيمان إنما يحدث منهم دون أن يستحضروا عقوبة المعصية، فهم يرتكبون المعاصي بغير فعل. ولو قال: يفعلون لكان فعلًا لا يشترك فيه اللسان بالقول. ولو قال يعملون لكان فعلًا وقولًا فقط. ولو قال يكتسبون لفهمنا أن المعصية تثير انفعالًا وتهيجًا في داخلهم؛ لأنهم لم يعتادوها. ولكن جاء قوله تعالى: {يَكْسِبُونَ} ليعطينا المعنى الصحيح في أنهم قد اعتادوا المعصية؛ حتى أصبحوا يفعلونها بلا افتعال. اهـ.
|